خصوصية التجارة .. و غموض القواعد في النطاق الاستثنائي للمعاملات التجارية
َتنشَأُ العلاقات التجارية عن تعاملاتٍ تجري بغرض الربح بشكلٍ أساسيٍّ، حيث نَجِدُ التاجر يَشتَرِي سلعاً حتى يبيعها بربح، أي أنَّ التجارة هي ذلك التعامل الذي يَعتَمِدُ على تحريك رأس المال بهدفٍ أساسيٍّ هو تثمير الأموال عبر ربحٍ صافٍ واضحٍ.
وتُعتَبَر العمليات التجارية جزءاً من دورة رأس المال؛ حيث تتحوَّل الأموال النقدية من طبيعتها السائلة إلى سلع أو خدمات، ثم تعود إلى الصورة السائلة الأصلية بعد بيع السلع أو الخدمات، بالإضافة إلى فائضٍ من السيولة يتمثَّل بالربح.
وبالنظر إلى ضخامة العمليات التجارية، وعدم قدرة التجَّار على توفير السيولة الكاملة المطلوبة لتنفيذ مشروعه، فإنَّ الائتمان يُعتَبَر جزءاً لا يتجزَّأ من هوية النشاط التجَّاري، وهو الوضع الذي يَجعَلُ التاجر مديناً إلى حين انتهاء دورة رأس المال.
لكن عندما تكون دورة رأس المال هذه دورةً خاسرةً، فإنَّ السيولة الناتجة تُصبِحُ أقلَّ من رأس المال الذي دَخَلَ العملية التجارية؛ وهكذا قد يتعرَّض التاجر لخطر ملاحقة الدائنين، ثم الإفلاس.
وبالنظر إلى الظروف الخطرة ذات الخصوصية العالية التي تُحيطُ بالمعاملات التجارية، فإنَّ القواعد التي تَحكُمُ هذه المعاملات يجب أن تكون هي الأخرى قواعداً استثنائيةً.
وهو أمرٌ مستقرٌّ عليه بشكلٍ عالميٍّ؛ حيث نَجِدُ دائماً قواعد التجارة تُشكِّلُ استثناءً صريحاً للقواعد العامة.
من هنا، فقد جاء مشروع نظام المعاملات التجارية بمجموعةٍ من القواعد الاستثنائية التي ستؤثِّر في مصير أية علاقةٍ تَربِطُ التجَّار فيما بينهم، وتُنظِّم حتى العلاقة بين التاجر وعملائه من الأشخاص العاديين المدنيين.
ويمكن التركيز على أهمِّ قواعد نطاق تطبيق المعاملات التجارية، كالتالي:
من الطبيعي أن يسري نظام المعاملات التجارية على التاجر، لكن الاستثناء هو أن تسري هذه القواعد على أيِّ شخص يُمارِسُ عملاً تجَّارياً (م/1)، حتى وإن لم يكن تاجراً محترفاً ومرخصاً.
فعلى سبيل المثال، إذا قام شخصٌ عاديٌّ -غير تاجر- بشراء سيارةٍ، ليس بغرض استعمالِهَا، ولا حتى بغرض حفظ أمواله من عوامل التضخم، لكن بغرض بيع هذه السيارة بعد أن ترتفع الأسعار؛ ففي هذه الحالة يُعتَبَر شراء وبيع السيارة عملاً تجَّارياً خاضعاً لأحكام التجارة، ومنها الضرائب.
لا تسري القواعد العامة مهما كانت صيغة نفاذها أو صرامتها إذا كان نظام المعاملات التجارية قد ذكر قاعدةً خاصةً لذات الواقعة (م/2).
فمثلاً، إذا كان التعامل يتطلَّب إثباته وفق القواعد العامة عقداً كتابياً أو مستنداً رسمياً، فإذا انطبقت الطبيعة التجارية على التعامل جاز إثباته بجميع وسائل الإثبات (م/47-1).
يكون النظام الحاكم للمعاملة التجارية هو النظام الاتفاقي أي بنود العقد بشكلٍ أساسيٍّ دون المساس بالقواعد التجارية الملزمة، وإذا لم يوجدْ بندٌ في العقد يَحكُمُ المسألة ولا نصٌّ تجَّاريٌّ خاصٌّ، فلا نرجع للقواعد العامة، بل إنَّ العرف التجَّاري مُقدَّم على القواعد العامة في هذه الحالة (م/3).
فمثلاً، إذا قام التاجر بشراء سلعٍ من شركة توريد على أن يكون الفحص والتسليم في مخازن المشتري، لكن الشركة امتنعتْ عن نقل السلع، ثم طلبتْ من التاجر استلامها في مخازنها، ولم يكنْ هنا بندٌ في العقد يَحكُمُ المسألة، ولا نصٌّ تجَّاريٌّ خاصٌّ؛ فهنا لا نرجع للقواعد العامة، وإنَّما على القاضي أن يَستَطْلِعَ العرف المُنظِّمَ لهذه المسألة فيما بين التجَّار، فإن كان العرف يُشيرُ بوضوحٍ إلى التسليم في مخازن المشتري يكون التاجر على حقٍّ، ويستطيع إلزام الشركة بتسليمه السلع في مخازنه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ العرف هو ما استقرَّ في الوسط التجَّاري من تعامل إلى درجة وصول هذا الاستقرار لمرحلة الالتزام فيما بين التجَّار، أمَّا العادة التجارية غير المنتشرة والتي لا يلتزم بها التجَّار عادةً فلا تُعتَبَر عُرفاً.
بموجب القواعد العامة، فإنَّ الشخص العادي المدني لا يجوز إجباره على الالتزام بقواعد تخصُّ فئةً معينةً من الناس؛ مثل القواعد التجارية، لكن استثناءً من ذلك فإنَّ نظام المعاملات التجارية قد فَرَضَ نفاذ قواعده على غير التاجر إذا تعامَلَ مع تاجرٍ ولم يتفقا على هذه المسألة (م/4).
فعلى سبيل المثال، إذا اشترى شخصٌ عاديٌّ جهازاً إلكترونياً من تاجرٍ، فإنَّ العلاقة تحكُمُهَا قواعد المعاملات التجارية؛ أي أنَّ التاجر يستطيع إثبات العقد في مواجهة المشتري المدني بالشهود أو بأية وسيلة إثبات مهما كانت قيمته وحتى وإن تطلَّبت القواعد العامة شكلاً معيناً لإثبات العقد.
وفي الواقع، يجب إعادة النظر في مشروع نظام المعاملات التجارية من حيث نطاق تطبيقه، ليس بغرض إلغاء الطبيعة الاستثنائية للقواعد التجارية، لكن بغرض تحديد تفاصيل هذه القواعد لخطورَتِهَا على الثقة فيما بين المتعاملين؛ فالتجَّار خبراءٌ في النظام التجَّاري والأعراف، فيما قد لا يكون الشخص العادي الذي يتعامل معهم مُطَّلعاً على هذه القواعد، لذا قد يقع باستغلال التاجر.
من هنا، يبدو من الأفضل تطبيق القواعد التجارية في مواجهة التاجر فقط، أمَّا في مواجهة الشخص العادي الذي يتعامَلُ معه، فتنطبق أحكام القواعد العامة؛ لأنَّ القواعد التجارية تكون غامضة بالنسبة له، وقد يجهلها تماماً فيما يتعلق بالأعراف التي تخصُّ فئة التجَّار دوناً عن غيرهم.
بـــــقلم : يحيى الجدران