ليبيا والاقتصاد الريعي .. معضلة وحلول! “الجزء الأول”
ينقسم الإنفاق في أي اقتصاد إلى: إنفاق عسكري والذي يشمل نفاقات الدفاع والداخلية وما في حكمهما، وإنفاق اقتصادي والذي يهدف إلى إنشاء أنشطة اقتصادية بهدف تحقيق عائد مادي منها، أو إنفاق اجتماعي (وهو الأكثر شيوعاً) والمتمثل في الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم والإسكان العام ومنظومة الأمان الاجتماعي، وهذا النوع من الإنفاق ذو عائد معنوي غالباً، ولا تظهر نتائجه إلا على المدى الطويل، ومن جانب آخر تقسم أبواب الميزانية السنوية للدول إلى عدة أبواب، ولنأخذ ليبيا على سبيل المثال التي تتكون ميزانيتها من 4 أبواب، يستحوذ فيها الباب الأول على ما نسبته 60% تقريباً من إجمالي الانفاق العام، وهذا في حد ذاته خلل كبير، ويحتاج لإعادة النظر فيه بل وتصحيحه، وقد كنت أشرت مراراً وتكراراً إلى أن الخلل الاقتصادي في ليبيا يكمن في هيكله، وبالتالي فهو بحاجة لتغييرات تقع في جوهره، على أن يكون هذا الإصلاح أو التغيير للأفضل، وأن يكون ضمن حزمة إصلاحات متكاملة، وبالعودة إلى الباب الاول من الميزانية الليبية (المهايا والمرتبات) نجد أن التضخم الكبير في هذا الباب هو نتيجة طبيعية للاقتصاد الريعي، بل وأنه أحد أبرز سماته، كما أنه نتيجة طبيعية لتزاوج الفوضى والمرض الهولندي (أو لعنة النفط كما يسميها البعض، أو خلل إدارة الموارد الطبيعية بالطريقة الصحيحة كما أحب أن أسميها)، وهو ليس وليد اليوم أو الامس، بل هو سلوك أصيل ومنهجية متبعة لدى جميع الحكومات الليبية منذ الاستقلال وحتى اليوم، والتي دأبت على شراء السلم الاجتماعي في شكل مرتبات وأجور ودعم، بدلاً من خلق تنمية حقيقية ومستدامة، وبالتالي لسائل أن يسأل ما هو الاقتصاد الريعي، وما هي مصادره، وما هي أهم خصائصه؟
تتعدد نُظم الاقتصاد، وتتنوع السياسات المالية والنقدية، وسبل تحقيق الدخل القومي، وسبل تنسيق الموازنة العامة داخل أي دولة، ومن بين السياسات الاقتصادية الشائعة ما يسمى بالاقتصاد الريعي، فعلى سبيل الذكر لا الحصر فالمنتجات الهيدروكربونية طبيعية المصدر هي نوع من الريع المنجمي، وعوائد رسوم المرور من القنوات والممرات المائية تعتبر نوعًا من الريع هي الأخرى، وإن كانت تُعرف بريع الموقع الجغرافي، وهذان النوعان من الريع يُعدان في الوقت الراهن من أكبر مصادر الثروات للدول، وأن هذه المصادر تحتل مكانة مهمة للدول التي تمتلكها أو التي لا تمتلكها على حدٍ سواء، والسبب هو أن النفط والغاز يدخلان في أغلب مجالات الحياة لجميع الدول من السياسة والاقتصاد وصولاً إلى الصناعة وغيرها، بل ويعدان السبب الرئيسي وراء الكثير من المشاكل والصراعات حول العالم، والاقتصاد الريعي في اللغة يُقصد به الأراضي الكثيرة الثمر، أما اصطلاحاً فنعني به أحد اثنين: فالأول نقصد به ذلك الاقتصاد الذي يعتمد في دخوله النقدية على العالم الخارجي كنتيجة لتصدير الموارد الأولية (الخام)، والتي تتسم بتذبذبها وانخفاض مرونة الطلب عليها بمرور الزمن، وبعبارة أخرى هو ذلك الاقتصاد المدعوم بالإنفاق المركزي، أي أن تصبح الدولة (الحكومة) وسيطة بين القطاع الريعي والقطاعات الاقتصادية الأخرى، أي أنها تستلم العائدات الريعية ومن ثم تخصصها إلى فروع النشاط الاقتصادي الأخرى داخل الدولة من خلال برامج الإنفاق العام والتي تتسم بكونها استهلاكية فقط (نمط استهلاكي)، أما الإصطلاح الثاني للاقتصاد الريعي فيتم إطلاقه عادةً على السياسة الاقتصادية للدولة أو الدول التي تعتمد اعتماداً كبيراً على مصدر واحد للدخل، في حين أن المقصود بمصطلح المجتمع الريعي هو تلك الفئات الاجتماعية المستفيدة من الريع، والتي تعمل على تعميق الحالة الريعية لحماية مصالحها الشخصية، حتى وإن كانت على حساب الفئات الأخرى في المجتمع، وقد تنشأ هذه الفئات بطرق شتى لعل أقصرها هو الصلة المباشرة / القرب من السلطة الريعية الحاكمة، أما مصطلح أو مفهوم الدولة الريعية في حد ذاته فقد طرحه المفكر الإيراني حسين مهدوي أول مرة عام (1971) ليصف به اقتصادات الدول النفطية سواء تلك التي انضمت لمنظمة أوبك أوحتى بعض الدول النفطية التي خارجها.
المصادر الأساسية للاقتصاد الريعي
إجمالاً يُمكننا تقسيم مصادر الاقتصاد الريعي إلى داخلية وأخرى خارجية المصدر، فالاقتصاد الريعي الداخلي المصدر هو ريع يكون في الأغلب معتمداً على خدمات تقدمها الدولة لخدمة قطاعات أخرى بها، وكأثر مباشر لاقتصاد هذا النوع من فقد يتحول هذا الريع نفسه إلى قطاع يُقدم الخدمة للقطاعات الأخرى في الدولة، بل أنه قد يُصبح المورد الأكثر إدراراً من غيره لخزانة الدولة، بل وفي بعض الأحيان يُصبح هو المورد الوحيد لخزينتها، أما الاقتصاد الريعي الخارجي المصدر فهو ريع يكون في الغالب متمثلا في اعتماد الدولة على تلك الثروات أو المواد الخام الموجودة بأراضيها مثل الذهب والبترول والغاز والمعادن، أو تميزها بمناطق سياحية أو علاجية، أو وجود معبر بري أو ممر مائي حيوي يمر عبر أراضيها، حيث تقوم بتحصيل رسوم على العربات / السفن المارة به، ومن ثم تجني الإيرادات بدون تعب أو جهد، دون أن نُنكر أن هذه المعابر أو الممرات احتاجت لجهد ووقت لشقها، كما أنها في حاجة دائمة لإدارتها بطريقة صحيحة لأنها أصبحت عالمية الطابع.
في الحقيقة، يُعد الريع مكونًا أساسيًا لآلية عمل أي اقتصاد، ولأي نوع من المداخيل، سواء كانت هذه المداخيل عامة أو خاصة، ولكن تكمن الإشكالية في كيفية تملك وإدارة هذا الريع، وكيفية استخدامه لمصلحة المجتمع، وتحقيق التنمية المنشودة، وبالتالي فإنه حتى في البلدان المستقرة وفي حال انعدام الرؤيه الاستراتيجية، وغياب الإدارة الكفوءة، والإرادة الحقيقية لدى أصحاب القرار والمسؤولين الحكوميين فإن اعتماد الاقتصاد على الريع الخارجي سيُولد الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، كما أن استمرار عمليات البحث العلمي لأجل اكتشاف المزيد من البدائل الممكنة للمصادر الهيدروكربونية (الطبيعية) هو بمثابة جرس إنذار للاقتصادات النفطية التي لم تسـًع لإيجاد بدائل، أو على الأقل بناء قاعدة إنتاجية / صناعية / خدمية متينة تحل محل النفط، وبالأخص عند انخفاض أهميته الاقتصادية أو نضوب كميته، ولتقريب الصورة أكثر (ومن منظور محلي) فإن النفط في ليبيا يلعب الأدوار الآتية:-
- دور النفط في حالتي الاستقرار وعدم الاستقرار السياسي، ومدى انتشار الفوضى كنتيجة حتمية للصراعات المستمرة في ليبيا.
- دور النفط في تهميش القطاعات الاقتصادية الأخرى وظهور أعراض المرض الهولندي Dutch Disease في ليبيا.
- طبيعة صناعة النفط نفسها من حيث كونها صناعة كثيفة رأس المال، وقليلة الكثافة من ناحية القوى البشرية والتوظيف.
- انعدام التنمية الحقيقية أو المستدامة، وفشل أجهزة الدولة الليبية في الخروج من معضلة المرض الهولندي أو( لعنة النفط) ، والوقوع في أسر الاقتصاد الريعي منذ الاستقلال وحتى اليوم.
- دور النفط في ترسيخ المركزية في ليبيا، وإقطاعية الدولة.
- دور النفط في دورات تسعير النفط بحد ذاته، وكيفية إدارة العجز، واستثمار الفائض الناتج منه في حال نضوب النفط، و ظهور منافسة حقيقة له من مصادر الطاقات البديلة.
- دور نقل النفط وتكريره وتوزيعه في ليبيا.
وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه في ظل كل هذه المعطياتك ما هو مصير وطبيعة الاقتصاد الليبي في قادم السنوات؟
أنواع الريع
مما تقدم يمكننا استنتاج عدّة أنواع للريع، والتي يُساهم كلٌّ منها بدورٍ معين في النظام الاقتصادي للدول نذكر منها:
- الريع الدائم وهو الدخل الناتج عن قرض مقابل دفعات شهريّة أو سنويّة مدى الحياة.
- الريع العقاريّ: وهو الريع الأساسيّ الذي اعتمدت عليه النظريّة الاقتصاديّة في تأسيس مفهوم الريع، ويُعدّ الريع العقاريّ عبارةً عن دخل ناتجٍ عن العناصر الإنتاجيّة، ويُقسم الريع العقاري إلى نوعين هما:- الريع المُطلق وهو الناتج عن ملكيّة للأراضيّ؛ حيث يسمح أصحابها للمستثمرين باستخدامها بمقابل، ويُعتبَر هذا المقابل عبارةً عن ريعٍ يضيفه المستثمرون إلى التكاليف الإنتاجيّة، ونسبة الأرباح الخاصة بهم، والريع التمايزيّ والذي يُعرَّف أيضاً باسم الريع الفرقيّ؛ وهو الريع الناتج عن الأراضيّ ذات الخصوبة المرتفعة، ولكن مع ارتفاع عدد السُكّان وزيادة الطلب على المنتجات الغذائيّة سوف تُستخدم حتى الأراضيّ ذات الخصوبة القليلة في الإنتاج الزراعيّ لسد العجز في الطلب على المنتجات الغذائية.
- الريع المنجميّ وهو الدخل الذي ينتج عن الاستثمار في الثروات الطبيعيّة سواء كانت سائلة أو غازيّة، وبالضرورة أن تتميّز بإنتاجيّة مرتفعة (كميات تجارية) مقارنةً بالمصادر الأُخرى، وتُحدّد أسعار كلٍّ من الفلزات، والغاز، والنفط، والذهب بالاعتماد على تكاليف إنتاج الثروات ذات الأقل إنتاجيّة .
- ريع الموقع الجغرافي وهو ريع يظهر نتيجةً للعوائد الخارجيّة التي ترتبط مع موقع وحدات النشاط الاقتصاديّ، مثل وجود القنوات المائية كلياً أو جزئياً في دولة ما، بالإضافة إلى القرب من وسائل النقلّ كالسكك الحديديّة، ممّا يساهم في تقليل الأجور المترتبة على النقلّ؛ كما أن وجود مكان متخصص في تقديم السياحة العلاجية يُعد نوعاً من ريع الموقع الجغرافي.
- الريع الوظيفيّ وهو نوع من أنواع الريع الحديثة، ويظهر نتيجةً لمميزات عينيّة يتميّزُ بها الموظفون، مثل الحصول على سكنٍ مجانيٍّ، ووسيلة نقلّ مجانية وما في حكمها، ومجموعة من الخدمات والسلع ذات الأسعار المُخفضة، وتعتمد هذه المميزات العينيّة على الدور الوظيفيّ للموظف؛ أيّ المنصب، وليس مع كمية أو نوعية العمل المُقدم من خلاله؛ وبالتالى يسعى كل الموظفين إلى الوصول لمناصب أعلى في وظائفهم؛ من أجل الحصول على أكبر كمية ممكنة من الريع الوظيفيّ.
- ريع المُضاربة وهو الدخل الذي ينتج دون القيام بأي عمل، ومع أن المُضارب يتعرض للخسائر الماليّة أحياناً، لكنه في المقابل يحصل على دخل مرتفعٍ جداً في أغلب الأوقات، ممّا يؤدي به إلى جمع الكثير من الثروات التي تُصبح مصدراً مهماً لدخل المُضارب، ويظهر ريع المُضاربة بشكلٍ واضح في سوق الأوراق الماليّة وفي الأسواق العقاريّة.
كتبت هذه المقالة بواسطة د. عبدالله ونيس الترهوني / أخصائي إقتصاديات النقل