ركود أم تباطؤ؟
تساؤلات وآراء واستفسارات صعبة يطرحها ذوو الاختصاص، والخبراء الاقتصاديون، حتى المستثمرون حول تزايد الاحتمالات بأن يتعرض اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، وهو أكبر اقتصاد في العالم، لحالة من الركود جراء رفع سعر الفائدة، وزيادة معدل التضخم.
مايك نوفوجراتز المستثمر الأمريكي، حذر من خطورة الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، وأن اقتصاد بلاده يتجه نحو احتمالية حدوث ركود سريع للغاية قد يهوي بالاقتصاد نحو الانهيار.
وأصبح ركود الاقتصاد الأمريكي حقيقة منتظرة من خلال بيانات جديدة تزيد قتامة الوضع. خبراء الاقتصاد لدى “جولدمان ساكس” نبهوا أيضا إلى احتمال ركوده، كما خفضوا توقعات نمو ناتجه المحلي الإجمالي، حيث يرى الاقتصاديون في البنك أن هناك احتمالا بنسبة 30 في المائة لدخول ركود خلال العام المقبل، مقارنة بنحو 15 في المائة سابقا، فيما صرح الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطابات سابقة أن الولايات المتحدة تواجه “رياحا اقتصادية معاكسة”.
كما أظهر مسح حديث أجرته جامعة شيكاغو أن 70 في المائة من الاقتصاديين يتوقعون دخول الولايات المتحدة حالة ركود العام المقبل، مع جهود “الاحتياطي الفيدرالي” لوقف تسارع التضخم.
ويشير مقياس “الاحتياطي الفيدرالي” المتبع على نطاق واسع إلى أن الاقتصاد الأمريكي يمكن أن يتجه إلى النمو السلبي للربع الثاني على التوالي عام 2022، بما يلبي تعريف القاعدة العامة للركود.
وهناك تساؤلات متكررة تطرح في هذا الشأن وتتركز حول ماهية المرحلة المقبلة، هل ستكون نموا بطيئا أم ركودا؟ والتفسيرات الاقتصادية مختلفة ومتعددة حسب النظرة التحليلية للخبراء، لكن ليست هناك ضمانات قوية لعدم دخول الولايات المتحدة مرحلة من الركود، في ظل التطورات الراهنة على صعيد التضخم، ومستويات الفائدة.
وفي الواقع، لا يستبعد مسؤولون في دول غربية متقدمة أن يصل الركود إلى دولهم، إذا ما استمر المسار الاقتصادي في صورته الحالية، وإذا لم تحدث نقلة نوعية تمكن الحكومات هنا وهناك من السيطرة على التضخم، فهذا الأخير وصل إلى أعلى مستوياته منذ أربعة عقود، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي تواجه مزيدا من الضغوط من جهة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، وزيادة أسعار الطاقة بأنواعها. والطاقة ومستويات أسعارها، تمثل في حد ذاتها مؤشرا “مرشدا” مقلقا دائما على الساحة الأمريكية، التي تعد من الدول المتقدمة الأكثر توفيرا للوقود المحلي الرخيص.
وتعتقد جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، أن الركود ليس حتميا في الولايات المتحدة، وكان رئيسها جو بايدن كرر ذلك في أكثر من مناسبة قبلها، إلا أن مثل هذه التصريحات لا توفر ضمانة حقيقية لبقاء أداء الاقتصاد الأمريكي خارج نطاق الركود أو الانكماش، فاعتماد مجلس الاحتياطي الفيدرالي على “السلاح” التقليدي لمواجهة التضخم، وهو رفع الفائدة، يسرع الخطا نحو الركود، بعد أشهر معدودة من ركود ضرب البلاد ومعها العالم بفعل الإفرازات الاقتصادية لجائحة كورونا إن جاز التعبير.
الولايات المتحدة كغيرها من الدول ضخت أموالا طائلة من أجل الإبقاء على الأداء الاقتصادي متوازنا أو على الأقل للحد من مؤثرات كورونا، بما في ذلك زيادة المعونات الاجتماعية التي عادة ما تمتص جانبا مهما من عوائد الخزينة العامة. وتراهن المؤسسة الاقتصادية الرسمية في الولايات المتحدة حاليا على إمكانية حدوث نمو بطيء بدلا من الركود، وهذا ما تأمله أي حكومة أخرى في أي بلد.
النمو البطيء ليس سيئا وقت الأزمات، بشرط أن يكون مستقرا، إلا أن ذلك ليس مضمونا في ظل اعتماد “الفيدرالي الأمريكي” سياسة الرفع التدريجي للفائدة، وهي سياسة تعد نادرة على الساحة الأمريكية التي امتازت بفائدة أقل ونمو أكبر.
مهمة تقليص التضخم عبر فائدة ترتفع، والحفاظ على سوق توظيف قوية، ليست سهلة على الإطلاق، حتى إن جانيت يلين أكدت أن تحقيق هذه المهمة يتطلب موهبة من جانب جيروم باول رئيس “الاحتياطي الفيدرالي”، وماذا أيضا؟ حظا!، وهذا يكرس في الواقع حقيقة أن الأمور أكثر تعقيدا، في الفترة الحرجة التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي.
في الربع الأول من العام الحالي، تراجع إجمالي الناتج المحلي الأمريكي بـ1.5 في المائة، ووفق المؤشرات الراهنة فإن ذلك سيستمر في الربع الثاني، خصوصا في عدد من القطاعات، مثل العقارات، ومبيعات التجزئة، والصناعات التحويلية، وهذا يعني أن الساحة مهددة بارتفاع نسبة البطالة بصورة أو أخرى.
ورغم أن نفقات المستهلكين لا تزال قوية، استنادا إلى الجهات الحكومية، إلا أن أصحاب الأعمال يعتقدون أن الركود بات أقرب مما كان عليه قبل شهر، فتكاليف الاقتراض صارت تضرب بصورة واضحة نمو الإنتاج، وظهر ذلك من خلال البيانات الأخيرة التي سجلت انخفاضا عد مخيبا للآمال في أوساط أصحاب الأعمال، في وقت يتراجع فيه الطلب على بعض السلع بوتيرة متصاعدة.
كل شيء بات مرتبطا بمدى قدرة المشرعين الأمريكيين على السيطرة على التضخم، فقد ارتفعت الفائدة ثلاث مرات في غضون أشهر، وهو أمر ليس معتادا.
ورغم أن مستويات الفائدة لا تزال أقل مما كانت عليه عام 1994، إلا أن الضغوط الاقتصادية المختلفة، وعدم وضوح الرؤية بشأن الاقتصاد العالمي ككل، يجعلان المجال مفتوحا أمام وصول الركود إلى الساحة الأمريكية، كما هو الحال في معظم الاقتصادات المتقدمة الأخرى.