سياسات الضبط المالي
فاقمت جائحة كورونا وما تلاها من إغلاق كبير للاقتصاد العالمي من معدلات الدين العام في معظم دول العالم نتيجة للسياسات المالية التوسعية التي اعتمدتها الحكومات لإبعاد الاقتصادات الوطنية عن الجزء الحاد من الازمة وتفادي الانزلاق الى ركود اقتصادي عميق يزيد من عمق التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها القيود الصحية على مختلف اقتصادات العالم.
نتيجة لذلك، بدأت العديد من الدول اعادة تقييم اتجاهات السياسة المالية، خصوصا مع ارتفاع معدلات الدين العام والتضخم في ان واحد، مما يزيد من فرص انتهاج سياسات مالية انكماشية قائمة على ضبط المالية العامة لإعادة اتجاهات الدين ضمن مديات الاستدامة من جهة وتجفيف احد مصادر تمويل الضغوط التضخمية، كما يراهن العديد من الخبراء وصناع القرار، من جهة اخرى.
وبشكل عام، يعد الحفاظ على الضبط المالي أمرا ضروريا للحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي وتقليل نقاط الضعف وتحسين الأداء الاقتصادي الكلي. وعلى الرغم من ضرورة تعزيز الضبط المالي للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتحسين الاداء الاقتصادي الكلي، تثار العديد من القضايا حول سياسات الضبط المالي في الوقت الراهن، خصوصا مع التباطؤ الاقتصادي الذي يشهده العالم واستمرار الصراع الروسي الاوكراني وانعكاساته على اسعار الغذاء والطاقة فضلا على استمرار سياسات التشديد النقدي في الولايات المتحدة واوربا وعدد آخر من دول العالم.
وعادة ما يواجه صناع القرار عددا من الاسئلة قبل الشروع بالضبط المالي منها متى يمكن البدء بالضبط المالي؟ ما هي المدة المحددة للضبط المالي؟، ما حجم الضبط المالي المطلوب؟، ما هي الاثار الاقتصادية والاجتماعية للضبط المالي؟ ما هي السياسات الاقتصادية اللازمة لنجاح سياسة الضبط المالي؟ ما هي الادوات المثلى لتحقيق الضبط المالي؟
وحقيقة الامر يختلف الجواب على تلك الاسئلة من بلد الى اخر، ومن وقت لآخر، خصوصا مع تسارع التطورات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم وتعدد الصدمات والازمات الاقتصادية التي تهدد النمو والاستقرار الاقتصادي في اطار الاقتصاد العالمي المعولم.
ادوات الضبط المالي
يتطلب الضبط المالي أن تحافظ الحكومات على مواقفها المالية بما يتوافق واستقرار الاقتصاد الكلي وتحقيق النمو الاقتصادي متوسط وبعيد الامد. وعادة ما يتم اللجوء الى الأدوات التقليدية للسياسة المالية (مثل النفقات العامة والايرادات العامة، والضرائب تحديدا)، لتنفيذ سياسات الضبط المالي وتحقيق الاستدامة المالية. الا ان اتساع معدلات الدين العام نتيجة توسع السياسات المالية التقديرية زاد من توجه العديد من الدول الى اعتماد ادوات جديدة لتنفيذ الضبط المالي تسمى بالقواعد المالية، وهي قواعد تحكم عناصر المالية العامة وتلزم الحكومة بالانضباط والترشيد كونها محددة بقانون.
ويمكن ان تركز تلك القواعد على جانب النفقات او الايرادات او الموازنة العامة او الدين العام او مزيج من الجميع لتحقيق الاهداف المالية المرسومة. مع ذلك، تنتقد بعض تلك القواعد بسبب صعوبة التصميم، فعلى الرغم من سهولة اشتقاق تلك القواعد وتحديدها نظريا الا انها معقدة جدا عند التنفيذ. مما يتطلب جعلها أكثر مرونة خلال الدورات الاقتصادية رغم صعوبة تحقيق التوازن بين المرونة والصرامة في ان واحد.
ومن امثلة القواعد المالية إلزام قانون الاتحاد الأوروبي حكومات دول الاتحاد بإبقاء العجز في موازناتها دون (3%) من GDP، والدين العام دون (60%) من GDP لتامين استقرار عملة اليورو الموحدة وفقا لمعاهدة ماستريخت عام 1992.
وعادة ما يتم اعتماد معيار رصيد الموازنة المعدل دوريا (CAB) لقياس الضبط المالي، ويتم ايجاد هذا الرصيد عبر طرح النفقات المعدلة دوريا من الايرادات المعدلة دوريا. في حين ان النفقات المعدلة دوريا هي حاصل ضرب اجمالي النفقات في مقسوم الناتج المحلي الاجمالي الممكن على الناتج المحلي الاجمالي الفعلي، اما الايرادات المعدلة دوريا فهي حاصل ضرب اجمالي الايرادات في مقسوم الناتج المحلي الاجمالي الممكن على الناتج الاجمالي الفعلي.
الضبط المالي التوسعي
يرتبط الضبط المالي في بعض الدول باتساع النشاط الاقتصادي بدلا من انكماش الاقتصاد كما هو متوقع، وقد بينت تجربة الدنمارك وإيرلندا في ثمانينيات القرن الماضي بارتباط سياسات الضبط المالي الحاد بتوسع كبير وبشكل مفاجئ في الطلب المحلي الخاص وسميت حينها السياسات المالية الانكماشية/ التوسعية.
وقد انعكس ذلك في توليد قناعات نظرية بان الضبط المالي لا يؤدي دائما الى انكماش الاقتصاد بل العكس في بعض الاحيان، وبررت بعض الدراسات ذلك بالاستناد الى نظرية التوقعات العقلانية التي بينت وجود استجابة قوية من جانب القطاع الخاص لضبط أوضاع المالية العامة على جانب الطلب، من خلال تأثير الثروة على الاستهلاك وتأثير المصداقية على أسعار الفائدة.
وفيما يخص تأثير الثروة على الاستهلاك فإن القيود المالية قد تؤدي إلى ظهور توقعات بشأن تخفيضات ضريبية في المستقبل وبالتالي زيادة الدخل الدائم للأسر، وهو ما سيحفز بدوره الاستهلاك الخاص والاستثمار وبالتالي الإنتاج. اما تأثير المصداقية فيفسر بانخفاض اسعار الفائدة المرتبط بسياسات الضبط المالي، نتيجة خفض مخاطر التضخم ومخاطر عدم القدرة على السداد، مما يعزز الثقة بالأسواق، ويزيد من معدلات الاستهلاك والاستثمار.
الضبط المالي في الدول النفطية
غالبا ما يتم التفكير بسياسات الضبط المالي في الدول النفطية حينما يواجه الاقتصاد صدمة نفطية نتيجة تدهور اسعار النفط في الاسواق العالمية (كما حدث عام 2014 وعام 2020)، نظرا لاعتماد الكثير من موازنات هذه الدول على الايرادات النفطية بشكل كبير في تمويل النفقات العامة. ويبقى موضوع حجم ومدة الضبط المالي مرتبط على حجم واستمرارية الصدمة النفطية.
وفي العادة يتم التفكير في تخفيض النفقات العامة نظرا لضعف الايرادات غير النفطية من جهة وتخلف النظم الضريبية في هذه الدول من جهة اخرى. ويفضل ان يتم اللجوء الى الدين العام الداخلي لتمويل العجز، طالما كانت الاحتياطات الاجنبية كافية لتمويل طلب القطاع الخاص على العملة الاجنبية. ولا يمكن توقع تخفيف الصدمة النفطية على الاقتصاد الوطني عبر تبني سياسة تقليص النفقات العامة لتساير معدلات الايرادات النفطية المنخفضة، نظرا لمخاطر فتح نافذة تتسلل عبرها الصدمات الخارجية الى الاقتصاد المحلي.
بدلا من ذلك، يفضل ترشيد النفقات بشكل معقول مع تمويل الفارق بين النفقات المخططة والايرادات المتوقعة عبر الاقتراض الداخلي، على ان تسدد الديون حالما تنتعش اسعار النفط وتتعافى الايرادات النفطية من اجل تخفيف الاعباء عن ميزانية البنك المركزي الذي يكون في العادة الممول غير المباشر للديون الداخلية، كما في العراق، نظرا لضيق اسواق الدين وضعف معدلات الادخار الخاص فضلا على عدم الثقة بالسندات العامة من قبل جزء كبير من الجمهور.
ويعني ذلك ضرورة ان تكون سياسات الضبط المالي وقائية واستباقية للصدمات النفطية وليست مرافقة لها حتى لا تسبب في تعميق الاثار الاقتصادية والاجتماعية التي يتركها التراجع الحاد للإيرادات لنفطية على ميزان المدفوعات والموازنة العامة. ويتطلب الامر ايضا اصلاح سياسات التوظيف وربطها بالإنتاجية، وتحقيق العدالة وازالة الفوارق في هيكل تعويضات الموظفين في مختلف مؤسسات القطاع العام. كما ينبغي رفع كفاءة النفقات العامة في مختلف القطاعات والسعي الجاد لتعزيز الايرادات غير النفطية.